جريدة السبق الإخبارية
في سياق وطني وإقليمي ودولي معقد، احتفل المغاربة بالذكرى السادسة والعشرون لاعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية، وهي مناسبة لتقييم موضوعي لمسار الإصلاحات الكبرى التي شهدتها البلاد خلال هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الدولة المغربية الحديثة.
– الاستيعاب الإيجابي للدينامية الاحتجاجية للربيع العربي:
لقد تميز هذا العهد بقدرة النظام المغربي على تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، والانخراط في إصلاحات تدريجية وعميقة، بما عزّز مناعة الدولة ومكنها من التفاعل المرن مع التحديات الداخلية والتحولات الإقليمية.
واحدة من أبرز المحطات السياسية خلال هذا العهد كانت سنة 2011، حين تمكّن المغرب من التعامل مع موجة “الربيع العربي” بمنهج إصلاحي استباقي، تُوّج بإقرار دستور جديد متقدم، مكّن من تعزيز مكانة الحكومة والبرلمان، وتوسيع مجال الحقوق والحريات الأساسية. وقد شكّل هذا الخيار الاستراتيجي استثناءً إيجابيًا في منطقة شهدت انهيارات مؤسساتية عميقة، عجزت خلالها العديد من الأنظمة عن احتواء الديناميات الاحتجاجية، بل تحول بعضها إلى دول فاشلة.
– إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية مهيكلة:
كما شهدت المرحلة أوراشًا مؤسسية وتنموية بارزة، مثل إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، وإصلاح مدونة الأسرة، وإطلاق المشروع الوطني لتعميم الحماية الاجتماعية، فضلًا عن استثمارات كبرى في البنى التحتية من طرق سيارة وموانئ وسكك حديدية والقطار فائق السرعة (TGV)، والمشاريع الكبرى المتعلقة بالأمن المائي والغذائي والطاقات المتجددة، مما يدل على حرص ملكي واضح على تحديث البنيات الأساسية لتوطين الصناعة وجلب الاستثمارات وفق رؤية تنموية واعدة.
– مكتسبات دبلوماسية وازنة:
خارجيًا، راكم المغرب مكتسبات استراتيجية في مقدمتها التقدّم المحرز في ملف الصحراء المغربية، حيث حظي مقترح الحكم الذاتي بدعم دولي واسع، من قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، وإسبانيا والبرتغال..
كما يعكس اختيار المغرب شريكًا في تنظيم كأس العالم 2030 اعترافًا دوليًا بقدراته التنظيمية واستقراره السياسي. وتُعد عودته إلى الاتحاد الإفريقي خطوة محورية في تعزيز مكانته الدبلوماسية والاقتصادية في القارة، بما يعزز أدواره في الوساطة الإقليمية والتعاون جنوب–جنوب.
– تحديات مستقبلية تتطلب تمتين الجبهة الداخلية:
إن الإنجازات المحققة لا ينبغي أن تخفي استمرار تحديات هيكلية، أبرزها التأخر في تفعيل عدد من المؤسسات الدستورية المنصوص عليها في دستور 2011، وعدم إخراج بعض القوانين الأساسية، كالقانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، إلى حيّز التنفيذ. كما لا تزال الفوارق الاجتماعية والمجالية قائمة، مما يُضعف فعالية السياسات العمومية، ويعزّز الإحساس بعدم الإنصاف لدى فئات واسعة من الساكنة، خاصة في المناطق القروية والجبلية. ويستدعي هذا الوضع اعتماد سياسات عمومية أكثر شمولًا وعدالة، تستجيب لتطلعات المواطنين وتحقق التوازن في توزيع الثروات.
خطاب العرش: خطاب الوضوح والواقعية
لقد جاء خطاب العرش الأخير بنبرة تزاوج بين الواقعية والطموح، بين تثمين المكتسبات والاعتراف بالتحديات.
أولًا: الفوارق الاجتماعية والعدالة المجالية:
جسد الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش إقرارا واضحا بوجود تفاوتات اجتماعية ومجالية، لا سيما في العالم القروي، داعيًا إلى تجاوز منطق “مغرب يسير بسرعتين” وضرورة معالجة مظاهر الفقر والهشاشة والنقص في البنيات الأساسية.
وفي هذا الصدد لابد من وقفة نقدية صارمة اتجاه بعض الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، التي تتحمل مسؤولية التقصير في تنفيذ برامج الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، رغم ما خُصّص لها من موارد مالية ضخمة. كما أن استحقاقات المونديال وما تفرضه من اهتمام بالمدن الكبرى، لا ينبغي أن تنسينا أحزمة الفقر المنتشرة في ضواحي بعض المدن، والنقص في المرافق والبنيات التحتية وفرص الشغل في العالم القروي، وهو ما يستلزم بالفعل مقاربة جديدة في التعاطي مع برامج التنمية من منظور مجالي يعالج مشاكل الناس بشكل ملموس وينعكس على مستوى عيش المواطنين والمواطنات.
ثانيًا: الاستحقاقات الانتخابية وتعزيز المسار الديمقراطي
أبرز الخطاب الملكي أهمية احترام الآجال الدستورية للاستحقاقات التشريعية المقبلة، باعتبارها مدخلًا أساسيًا لترسيخ الشرعية الديمقراطية وتجديد النخب، في مقابل المقترحات التي راجت بشأن تأجيلها أو تجميعها مع الانتخابات المحلية. كما شدد على ضرورة تهيئة البيئة القانونية والسياسية الكفيلة بضمان نزاهة الانتخابات، عبر استكمال الإطار التشريعي المنظّم لها، وتنظيم مشاورات موسعة مع الفاعلين السياسيين.
وقد أوكلت وزارة الداخلية ضمن هذا التوجه مسؤولية مزدوجة: من جهة، الإشراف الإداري والتقني على التحضير الجيد للانتخابات، ومن جهة ثانية، ضمان الانفتاح على الأحزاب والمجتمع السياسي من خلال حوار مؤسساتي يعزز الثقة ويُفضي إلى توافقات حول مجمل مراحل المسار الانتخابي، من إعداد اللوائح وتحديد نمط الاقتراع، إلى إعلان النتائج والطعن فيها.
ثالثًا: القضية الوطنية وسياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر
لقد جدد الخطاب الملكي التأكيد على المكتسبات التي حققها المغرب في ملف الصحراء، مشددًا على أن مقترح الحكم الذاتي بات يحظى بدعم دولي متزايد. وفي الوقت ذاته، تم التأكيد على التزام المغرب بسياسة “اليد الممدودة” تجاه الجزائر، انطلاقًا من قناعة استراتيجية تؤمن بوحدة المصير، وأهمية الحوار الثنائي، ومركزية بناء اتحاد مغاربي فعّال قادر على تحقيق الإقلاع الاقتصادي والأمن الجماعي للمنطقة.
وترتكز هذه الرؤية على مقاربة وحدوية غير صدامية، تُذكّر بتجربة المصالحة الأوروبية بين فرنسا وألمانيا بعد عقود من الصراع، باعتبارها نموذجًا يُحتذى لبناء تكتل إقليمي فعّال، يحرّر المنطقة من التبعية والتجزئة، ويعزز موقعها في النظام الدولي.
والخلاصة:
إن مرور ستة وعشرين عامًا على اعتلاء الملك محمد السادس العرش، يُمثل مرحلة متميزة من تاريخ المغرب، طبعها الحرص على التوازن بين الإصلاح والاستقرار، والانفتاح والتجذر، المؤسساتية والتنمية. غير أن ترسيخ هذا المسار يقتضي استكمال ورش بناء دولة القانون، وتفعيل المؤسسات الدستورية، وترسيخ ثقافة احترام الحقوق والحريات الأساسية وتعزيز نزاهة القضاء، وتجاوز الفوارق الاجتماعية والمجالية، في أفق بناء نموذج تنموي أكثر عدالة واندماجًا، يعزز الثقة بين المواطن والدولة، ويؤهل المغرب للتموقع الفاعل ضمن محيطه الإقليمي والدولي.
عن موقع pjd