جريدة السبق الاخبارية
قررت النيابة العامة في مدينة الدار البيضاء إخلاء سبيل الفنانة الشابة غيثة عصفور التي اعتُقلت لثلاثة أيام بتهمة المشاركة في الخيانة الزوجية.
وقرر وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية في دائرة عين السبع حفظ الملف لانعدام الأدلة التي تثبت التهمة، بعد أن استغرق الأمر ثلاثة أيام في ضيافة الشرطة تحت تدابير الحراسة النظرية التي جرى استثناءً تمديدها من 48 ساعة إلى 72 ساعة.
الآن، ما هي قيمة قرار النيابة العامة بحفظ الملف؟
قيمته أن غيثة رجعت إلى حضن عائلتها وخرجت من زنزانة الحراسة النظرية، لكن محاكمة الشارع كانت لها كلمة أخرى: لقد أدانت الشابة، وحكمت عليها بقية حياتها تحت رعاية إعلام التشهير وآلة التدمير!
طيلة هذه الأيام الثلاثة التي قضتها الفنانة الشابة وعائلتها وسط الجحيم، ماذا جرى؟
الذي جرى أن صحافة الفضائح، التي هي نفسها أكبر فضيحة، تعيش مع المغاربة صباح مساء، دون تدخل أو ردع:
لا من قبل النيابة العامة المستأمنة على الأمن القضائي للمغاربة وسمعتهم،
ولا من قبل المجلس الوطني للصحافة الهارب من دوره إلى أدوار أخرى،
ولا من قبل نقابة تدّعي زورًا تنظيم المهنة،
ولا من قبل الفيدرالية المغربية لناشري الصحف التي تصمت عادة في مثل هذه الظروف خوفًا من الاصطدام بجمعية أخرى تقود مخططًا لـ(شحتنة) الإعلام الرقمي، وجعل شوف TV رائدة صحافة أكل اللحم البشري نيئًا.
منذ الدقائق الأولى التي نزل فيها بلاغ لسيدة تدّعي أن زوجها يخونها مع الفنانة في بيت الزوجية، تحرّك على الفور ميكروفون وكاميرا رائدة صحافة التشهير:
الزميلة الموقّرة والمهنية فاطمة الزهراء، المعروفة بالقفز والنط بين القبور بحثًا عن جثث متعفنة تقدّمها وجبة شهية ومثيرة لأكلي البشر من رواد الموقع الأول في المغرب.
موقع يقود مديره (المبجّل) فدرالية أخرى مغربية للإعلام، والتي تعتبر الشريك الأول لوزارة الاتصال. ومع هذه الفيدرالية يتم تحضير قانون جديد للمجلس الوطني للصحافة، موكول له السهر على احترام أخلاقيات المهنة وتنظيم الصحافة وتطويرها وتحديثها.
وغدًا سنرى الزميل “شحتان” عضوًا في مجلس سيحاكم زملاءه الصحافيين باسم أخلاقيات المهنة والرقي بالقطاع!
منذ الدقائق الأولى لوصول بلاغ الشكاية، تحركت غربان صحافة التشهير للتنكيل بغيثة عصفور وتقديمها مادة للإثارة، ورفع نسب المشاهدة، ومعها عائدات مداخيل الإشهار على يوتيوب.
وقبلها للرفع من أسهم مواقع وجرائد التشهير لدى السلطة، التي تبحث هي الأخرى عن (البوز) للتغطية على الإعلام المهني والأقلام الصحفية الجادة، في إطار سياسة عمومية قائمة على خلط الأوراق وإغراق الصحافة المغربية ومتابعيها في تتبّع أعطاب المجتمع وظواهره السلبية، والكفّ عن الاهتمام بما ينفع الناس ويكرّس الصحافة كسلطة رابعة تراقب باقي السلط.
أكثر من هذا، للذي يريد أن يزيد من الشعر بيتًا، نظّمت كبيرة مراسلي إعلام الفضائح (الزميلة فاطمة الزهراء) بلاطو تحليلي بشاشة تفاعلية حية ومباشرة، لتشريح جثة وسمعة وشرف غيثة ومن معها، قبل أن يقول القضاء كلمته، وقبل أن تعلن النيابة العامة عن قرارها بالمتابعة أو الحفظ.
ووصفت بحكم باتّ قاطع ونهائي الرجل بالخائن وغيثة بالمشاركة في الجريمة، دون تحقيق ولا دفاع ولا أدلة ولا قرائن ولا استئناف!
وهذه كلها جرائم كانت تُبث على شاشة موقع شوف TV (الرائد)، والذي يحقق مليارات المشاهدات في السنة.
وبهذه الصفة يقودنا جميعًا إلى مزبلة الإعلام الأصفر ومقبرة الجثث المتعفنة.
إعلام الزميل “شحتان” لم يكتف بخرق قرينة البراءة، وهي حق من حقوق الموقوفين الذي لا يجب خرقه، بل عمد إلى محاكمة الفنانة الشابة من على شاشته أمام محكمة الشارع الإلكتروني المعبأ عن الآخر بغريزة الانتقام من كل شخصية عمومية.
شارع مستعد، باسم أخلاق زائفة، لأن ينصب أعواد المشانق كل يوم للذي يقوده حظه العاثر إلى السقوط بين يدي إعلام (شحتان) ومن يشبهه.
الطريف هو أن الزميلة كبيرة مراسلي شوف TV، وبعد حملة متواصلة ليل نهار للتشهير بالفنانة وخرق كل حقوقها – وأولها عدم ذكر اسمها أو صورتها أو ما يدل عليها أثناء البحث لدى الضابطة القضائية، احترامًا لقرينة البراءة، واحترامًا لمشاعر أسرتها، واحترامًا لسرية البحث، وتفاديًا لأضرار لا يمكن جبرها – وبعد أن شبع موقع التشهير الأول في شمال إفريقيا والشرق الأوسط من جثة غيثة ولم يبقَ في المسكينة قطعة لحم صالحة للمضغ…
أعلنت الزميلة الوقورة فاطمة الزهراء، بحجابها المزركش وفي التفاتة شفقة:
“إنه ونزولًا عند رأي المشاهدين وتدخل فاعلي الخير فإنها ستتوقف – مشكورة طبعًا – عن الخوض في هذه الفضيحة!”
طبعًا هو توقف مؤقت واختياري، ومن باب الشفقة على غيثة، بعد أن حرّضت عليها الرأي العام وأشعلت النيران في قضيتها، وصوّرتها كفتاة تسرق الأزواج من حضن زوجاتهم.
وهنا عرفنا، وعرف مجتمع الإعلام في المغرب والمنطقة، أن هناك خطًا في التحرير وجنسًا في الصحافة اسمه:
نزولًا عند رغبة الجمهور وتدخل الأصدقاء سنتوقف عن متابعة هذا الموضوع وهذه الفضيحة التي تجري في بيت الزوجية، أما الجرائم التي تتم في بيت الصحافة فهذه لا يتحدث عنها أحد…
جرائم النشر هذه التي لا تتابع النيابة العامة مقترفيها، ولا تقترب من عاهاتها المنتشرة في المغرب والخارج، لم تعد فلتات هنا وهناك، بل صارت قطاعًا (إعلاميًا) واسعًا، مهيكلًا وممولًا من الدعم العمومي، وشريكًا للدولة في السر والعلن.
قطاع له جمعية ناطقة باسمه، ومدافعة عن “حقه” في أكل اللحم البشري نيئًا قبل أن تنضجه المحاكم وغرف الجنايات…
وهذا ما حصل مع ملفات كثيرة مثل: معتقلي حراك الريف، وملفات اعتقال الصحافيين والمدونين والناشطين الحقوقيين (المعطي منجيب، توفيق بوعشرين، سليمان الريسوني، عمر الراضي، هاجر الريسوني، سعيدة العلمي، الدكتور التازي…).
هل هذه صحافة صفراء؟
صحافة فضائح، وصور الدم والجنس والاعتقالات والمداهمات.
صحافة تقوم على: المبالغة، التهويل، الإثارة الرخيصة، التشهير بالناس، التلصص على خصوصياتهم، عدم احترام الحياة الخاصة وقرينة البراءة، وخرق القانون.
كل هذا من أجل جذب القرّاء، وزيادة المبيعات، ورفع مداخيل (الادسنس)، وكسب أوراق اعتماد على طاولة السلطة، والمشاركة معها في خنق الأصوات الحرة، على حساب مشاعر الضحايا وعائلاتهم، وعلى حساب المصلحة العامة والتجربة الديمقراطية الهشة التي تلعب الصحافة دورًا مهمًا في إحيائها أو خنقها.
لا، لا… هذه صحافة حمراء:
تتغذى على الدم،
تبيع الحبر بالدموع،
تبيع الحقيقة بالكذب،
وتبيع الإنسان بعناوين صاخبة.
وتبيع المهنة لأعداء المهنة، وتنصّب نفسها سلاحًا فتاكًا للردع في يد من يعادي الصحافة والصحافيين الحقيقيين.
وصفت صحيفة روبرت مردوخ في بريطانيا News of the World بعد أن ضُبطت بالجرم المشهود وهي تخرق سرية المراسلات والاتصالات، وتلتقط إشارة الشرطة لتسبقها إلى مسرح الجريمة، وتعمد إلى تشويه سمعة الناس، فجرى وقفها.
وصفت صحافة مردوخ بأنها: “آلة ضخمة لإنتاج الإثارة والابتذال، أكثر من كونها صحيفة.”
إليك يا غيثة عصفور، وإلى كل ضحايا شوف TV ومثيلاتها في الإعلام الرقمي والورقي،
إلى ضحايا هذه الآلات الهدامة نرفع الصوت، ونعلن التضامن، ونطلب المغفرة من غيثة ومن ضحايا آلات العنف الرمزي الهدامة هذه.
لقد كتبت اسمك يا غيثة في قائمة ضحايا إعلام الإثارة والابتذال وجرائم النشر التي لا تُغتفر.
وإذا لم يتحرك اليوم أحد في الدولة والمجتمع لمحاسبة هذا الكارتيل التشهيري، فسيأتي يوم للحساب…
إما أمام المحاكم، أو أمام التاريخ.
مصطفى أبوعلي
عن الحياة اليومية من صفحة الصحفي توفيق بوعشرين